بين ريتا ومحمود درويش قصة المطلق من النبل لو أردنا، فهي والبندقية والأرض والوطن... قرأنا بين ريتا والبندقية في حضرة الحضور... وها نحن نقرأ في حضرة الغياب... وحدها ريتا صارت حلماً جميلاً يدغدغ عواطفنا، يدفعنا إلى نبل المشاعر في وجه آسر لأجله يصبح الوطن وطناً أكثر عظمة، وفي مشاعر أعطت الشاعر مساحة للحديث الذي لم يتوقف ولو بعد الرحيل..! ريتا حلم أحببناه، ولم نجتمع به، وشاعر شكرنا صنعه ولم نتعرف إليه..!
ريتا قد تكون الوحيدة المعاصرة التي نتوق إلى لقائها، فهي في بنادق الجليل، وعروس غسان كنفاني، ودار عبد الكريم الكرمي، وهي مستحيل شعراء الأرض المحتلة، وريتا زغرودة البطولة عند ألفة الإدلبي وعبد السلام العجيلي، وريتا رابط نزار قباني بشعراء الأرض المحتلة حين قال لهم ذات يوم: محمود الدرويش سلاماً... ريتا عيون نبصر بها...
نبض نحس به
ريتا تراب فلسطين وطهر شام وقافية شعرية لا مثيل لها...
آه منها...
بين ريتا ومحمود درويش نبحث عن ألق الفداء والتضحية لنقف أمام الحب الطاغي لجزء من ألوهة أراه ينوس فوق رأسي كل لحظة ليقول لي: قم... انهض اقرأ
تمتع
طوّق بذراعيك ريتا...
لكن ريتا قداسة وطن... وقداسة الأوطان تُقْبِل ولا تُطْلَب...
ببندقية استشهد حاملها تقدمي
بقافية انتقلت إلى حافة الغياب تقدمي
ليس المهم كيف، لكن المهم أن تتقدمي يا أسطورة لن تتكرر
تقدمي
طوقيني
نغني معاً أغنية الشهيد الأبدية
«عاد في كفني» من (أوراق الزيتون) ملحمة غاصّة بالوجدان والتضحية من أجل الوطن... قلما يقف عندها الذين يختارون، لذا أردتها نصاً رائقاً غضاً كالشهيد أحمر يشبه دمه، حنوناً يقترب من أم الشهيد... وقبل هذا وذاك تصلح نشيد اعتذار لعاشق «ريتا» يتلوه بين يديها وهي تغطي وجهه بأصابعها المليون:
(1)
يحكون في بلادنا
يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
وعاد في كفن
(2)
كان اسمه
لا تذكروا اسمه!
خلوه في قلوبنا
لا تدعوا الكلمة
تضيع في الهواء، كالرماد
خلوه جرحاً راعفاً... لا يعرف الضماد
طريقه إليه
أخاف يا أحبتي... أخاف يا أيتام
أخاف أن ننساه في زحمة الأسماء
أخاف أن يذوب في زوابع الشتاء!
أخاف أن تنام في قلوبنا
جراحنا...
أخاف أن تنام!
(3)
العمر.. عمر برعم لا يذكر المطر
لم يبك تحت شرفة القمر
لم يوقف الساعات بالسهر
وما تداعت عند حائط يداه
ولم تسافر خلف خيط شهوة عيناه
ولم يقبّل حلوة
لم يعرف الغزل
غير أغاني مطرب ضيّعه الأمل
ولم يقل لحلوة: الله!
إلا مرتين!
لم تلتفت إليه... ما أعطته إلا طرف عين
كان الفتى صغيراً
فغاب عن طريقها
ولم يفكر بالهوى كثيراً!
(4)
يحكون في بلادنا
يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
وعاد في كفن
ما قال حين زغردت خطاه خلف الباب
لأمه: الوداع!
ما قال للأحباب... للأصحاب:
موعدنا غداً:
ولم تضع رسالة... كعادة المسافرين
تقول: إني عائد... وتُسكت الظنون
ولم يخطّ كلمة
تضيء ليل أمه التي
تخاطب السماء والأشياء
تقول: يا وسادة السرير
يا حقيبة الثياب!
يا ليل! يا نجوم! يا إله! يا سحاب!:
أما رأيتم شارداً... عيناه نجمتان؟
يداه سلتان من ريحان
وصدره وسادة النجوم والقمر
وشعره أرجوحة للريح والزهر!
أما رأيتم شارداً
مسافراً لا يحسن السفر
راح بلا زوادة، من يطعم الفتى
إن جاع في طريقه؟
من يرحم الغريب؟
قلبي عليه في غوائل الدروب!
قلبي عليك يا فتى... يا ولداه!
قولوا لها، باليل! يا نجوم!
يا دروب! يا سحاب!
قولوا لها: لن تحملي الجواب
فالجرح فوق الدمع... فوق الحزن والعذاب!
لن تحملي... لن تصبري كثيراً
لأنه
لأنه مات ولم يزل صغيرا!
(5)
يحكون في بلادنا عن صاحبي الكثيرا
حرائق الرصاص في وجناته
وصدره... ووجهه
لا تشرحوا الأمورا!
أنا رأيت جرحه
حدّقت في أبعاده كثيرا...
«قلبي على أطفالنا»
وكل أم تحضن السريرا!
يا أصدقاء الراحل البعيد
لا تسألوا: متى يعود
لا تسألوا كثيرا
بل اسألوا: متى
يستيقظ الرجال!
إنها روح الشهادة التي تبعد الإنسان عن أي إحساس بالغربة.
روح الشهادة التي تجعل صاحبها موجوداً بعد الرحيل بألف ألف عام.
روح الشهادة التي منحت «ريتا» والبندقية مكانة مميزة لدى المتلقي الذي يستمع إلى محمود درويش فيتمنى لو كسب لحظة على أهداب البندقية أو رصاص »ريتا».
الشهيد الخالد أبداً والباقي على الزمن هو الذي منح الشعر كبرياءه وخلوده على الدوام أمامه تنحني القامات إجلالاً.