السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللغة العربية من الدين ، و هي شعار الإسلام و أهله
هذا كلام رصين و بيان بديع لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في
كتابه الماتع المعتمد في بابه : " اقتضاء الصراط المستقيم "
*- و قد ذكر فيه أقوال أهل العلم في حكم قراءة القرآن ، و الأذكار و الأدعية في الصلاة و خارجها ، بغير اللغة العربية .
*- و بين فيه حكم الخطاب بها لغير حاجة ، و حكم اعتياد ذلك .
*- و أكد فيه على ضرورة التمسك بها و إظهارها ، لأنها شعار الإسلام و أهله ،
و على ضرورة تعلمها و فهمها ، لأنه لا سبيل إلى فهم الكتاب و السنة إلا
بفهمها .
*** قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى و نفع بعلمه - :
" .... وأما الرطانة(1) ، وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية :
فقال أبو محمد الكرماني - المسمى بحرب - : باب تسمية الشهور بالفارسية .
قلت لأحمد : فإن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف ؟ فكره ذلك أشد
الكراهة.
وروى فيه عن مجاهد حديثا أنه كره أن يقال : آذرماه ، وذي ماه (2).
قلت : فإن كان اسم رجل أسميه به ؟ فكرهه .
قال : وسألت إسحاق قلت : تاريخ الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل : آذرماه،
وذي ماه ؟ قال : إن لم يكن في تلك الأسامي اسم يكره، فأرجو .
قال : وكان ابن المبارك يكره إيزدان يحلف به ، وقال : لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد، وكذلك الأسماء الفارسية.
قال : وكذلك أسماء العرب، كل شيء مضاف .
قال : وسألت إسحاق مرة أخرى قلت : الرجل يتعلم شهور الروم والفرس ؟ قال : كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس.
فما قاله أحمد من كراهة هذه الأسماء له وجهان :
أحدهما : إذا لم يعرف معنى الاسم، جاز أن يكون معنى محرما، فلا ينطق المسلم
بما لا يعرف معناه، ولهذا كرهت الرقى العجمية ، كالعبرانية ، أو السريانية
، أو غيرها ؛ خوفا أن يكون فيها معان لا تجوز .
وهذا المعنى هو الذي اعتبره إسحاق، لكن إن علم أن المعنى مكروه فلا ريب في كراهته.
وإن جهل معناه فأحمد كرهه، وكلام إسحاق يحتمل أنه لم يكرهه .
الوجه الثاني: كراهته أن يتعود الرجل النطق بغير العربية، فإن اللسان
العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون.
ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية التي في الصلاة والذكر : أن يُدعى الله أو يذكر بغير العربية .
وقد اختلف الفقهاء في أذكار الصلوات: هل تقال بغير العربية ؟ وهي ثلاث
درجات : أعلاها القرآن، ثم الذكر الواجب غير القرآن ، كالتحريمة بالإجماع ،
وكالتحليل والتشهد عند من أوجبهما ، ثم الذكر غير الواجب ، من دعاء أو
تسبيح أو تكبير أو غير ذلك .
فأما القرآن : فلا يقرأه بغير العربية، سواء قدر عليها أو لم يقدر عند
الجمهور، وهو الصواب الذي لا ريب فيه، بل قد قال غير واحد : إنه يمتنع أن
يترجم سورة، أو ما يقوم به الإعجاز .
واختلف أبو حنيفة وأصحابه في القادر على العربية .
وأما الأذكار الواجبة : فاختلف في منع ترجمة القرآن ، هل يترجمها العاجز عن
العربية، وعن تعلمها ؟ وفيه لأصحاب أحمد وجهان، أشبهها بكلام أحمد : أنه
لا يترجم، وهو قول مالك وإسحاق، والثاني : يترجم، وهو قول أبي يوسف ومحمد
والشافعي .
وأما سائر الأذكار فالمنصوص من الوجهين، أنه لا يترجمها ، ومتى فعل بطلت صلاته، وهو قول مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي .
والمنصوص عن الشافعي : أنه يكره ذلك بغير العربية ولا تبطل، ومن أصحابنا من قال : له ذلك، إذا لم يحسن العربية .
وحكم النطق بالعجمية في العبادات : من الصلاة والقراءة والذكر، كالتلبية
والتسمية على الذبيحة ، وفي العقود والفسوخ ، كالنكاح واللعان وغير ذلك :
معروف في كتب الفقه .
وأما الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهور - كالتواريخ ونحو ذلك -
فهو منهي عنه، مع الجهل بالمعنى، بلا ريب، وأما مع العلم به فكلام أحمد
بين في كراهته أيضا، فإنه كره : آذرماه، ونحوه، ومعناه ليس محرما .
وأظنه سئل عن الدعاء في الصلاة بالفارسية فكرهه وقال : لسان سوء ! وهو أيضا
قد أخذ بحديث عمر رضي الله عنه الذي فيه النهي عن رطانتهم، وعن شهود
أعيادهم.
وهذا قول مالك أيضا ؛ فإنه قال : لا يُحرم بالعجمية، ولا يدعو بها ولا يحلف
بها، وقال : نهى عمر عن رطانة الأعاجم وقال : " إنها خب " فقد استدل بنهي
عمر عن الرطانة مطلقا .
وقال الشافعي فيما رواه السلفي بإسناد معروف إلى محمد بن عبد الله بن عبد
الحكم قال : سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول : " سمى الله الطالبين من
فضله في الشراء والبيع : تجارا، ولم تزل العرب تسميهم التجار، ثم سماهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب،
والسماسرة اسم من أسماء العجم، فلا نحب أن يسمي رجل يعرف العربية تاجرا،
إلا تاجرا، ولا ينطق بالعربية فيسمى شيئا بأعجمية، وذلك أن اللسان الذي
اختاره الله عز وجل لسان العرب، فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم
أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم: ولهذا نقول : ينبغي لكل أحد يقدر على
تعلم العربية أن يتعلمها ؛ لأنه اللسان الأولى بأن يكون مرغوبا فيه من غير
أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية " .
فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية، أن يسمي بغيرها، وأن يتكلم بها خالطا
لها بالعجمية، وهذا الذي قاله الأئمة مأثور عن الصحابة والتابعين .
وقد قدمنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما ما ذكره .
وروى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف، حدثنا وكيع ، عن أبي هلال ، عن ابن
بريدة قال : قال عمر : " ما تكلم الرجل الفارسية إلا خَبّ (3) ، ولا خَبّ
رجل إلا نقصت مروءته " .
وقال : حدثنا وكيع ، عن ثور ، عن عطاء قال : " لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا عليهم كنائسهم، فإن السخط ينزل عليهم ".
وهذا هو الذي روينا فيما تقدم عن عمر رضي الله عنه .
وقال : حدثنا إسماعيل بن علية، عن داود بن أبي هند، أن محمد بن سعد بن أبي
وقاص سمع قوما يتكلمون بالفارسية فقال : " ما بال المجوسية بعد الحنيفية ؟.
وقد روى السلفي من حديث سعيد بن العلاء البرذعي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم
البلخي ، حدثنا عمر بن هارون البلخي ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن نافع ، عن
ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من
يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق ».
ورواه أيضا بإسناد معروف ، إلى أبي سهل محمود بن عمر العكبري ، حدثنا محمد
بن الحسن بن محمد المقري ، حدثنا أحمد بن الخليل - ببلخ - حدثنا إسحاق بن
ابراهيم الحريري ، حدثنا عمر بن هارون ، عن أسامة بن زيد ، عن نافع ، عن
ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من كان يحسن أن يتكلم
بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق ».
وهذا الكلام يشبه كلام عمر بن الخطاب، وأما رفعه فموضع تبين .
ونقل عن طائفة منهم، أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من العجمية.
قال أبو خلدة: كلمني أبو العالية بالفارسية .
وقال منذر الثوري: سأل رجل محمد بن الحنفية عن الجبن، فقال : يا جارية
اذهبي بهذا الدرهم فاشتري به تنبيزا ، فاشترت بها تنبيزا ثم جاءت به، يعني
الجبن.
وفي الجملة : فالكلمة بعد الكلمة من العجمية، أمرها قريب، وأكثر ما يفعلون
ذلك ، إما لكون المخاطب أعجميا، أو قد اعتاد العجمية، يريدون تقريب الأفهام
عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن
العاص - وكانت صغيرة قد ولدت بأرض الحبشة لما هاجر أبوها-، فكساها النبي
صلى الله عليه وسلم خميصة وقال : « يا أم خالد، هذا سنا » والسنا بلغة
الحبشة : الحسن.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لمن أوجعه بطنه : " أشكم بدرد " (4) ، وبعضهم يرويه مرفوعا، ولا يصح .
وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية - التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن
- حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو
لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا
مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم، وهو مكروه كما تقدم .
ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر، ولغة أهلهما
رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية، وأهل المغرب، ولغة أهلها
بربرية عوّدوا أهل هذه البلاد العربية، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار :
مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديما .
ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت عليهم
وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه.
وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب
وفي الدور فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في
فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة، ثم أراد أن
ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب .
واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل ، والخلق ، والدين تأثيرا قويا بينا،
ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد
العقل والدين والخلق .
وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب
والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب .
ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية.
وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عيسى بن يونس ، عن ثور ، عن
عمر بن زيد ، قال : كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : " أما
بعد: فتفقهوا في السنة ، وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن، فإنه عربي " .
وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال : " تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم ".
وهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما
يحتاج إليه ؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه
أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله . " (5)
*** فانتبهن أخواتي الفاضلات - رعاكن الله تعالى - و تأملن قوله رحمه الله تعالى :
"فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون. "
وقوله :
"واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل ، والخلق ، والدين تأثيرا قويا بينا،
ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد
العقل والدين والخلق .
وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب
والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب .
ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية. "
فعجبا لكثير من المسلمين ، كيف يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير .
كيف يؤثرون لغات الكفار على لغة القرآن و السنة ، و يحرصون على التخاطب بها ، و يجهلون أن فعلهم هذا من مظاهر موالاتهم ؟
و كيف يتمسكون ببعض اللهجات ، و يغفلون أو يتغافلون عن أن الذي يجمعهم و
يوحدهم إنما هو الدين ، و العربية منه ، و ليس هو العصبيات و القوميات ؟
أصلح الله تعالى أحوالنا ، و ردنا ردا جميلا إلى شرعه ؛ كتابه و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم .