مخالطة الصغير للكبير منهج في التربية أصيل
- عن أبي حُمَيْد الساعديّ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول: " أبْدِ الموَدَّةَ لمن وَادَدْتَ، فإنها هي أثبت "
رواه الطبراني. إنها قاعدة عامة يضعها النبي - صلى الله عليه وسلم - في
المعاملة مع الغير، وخاصة مع من نعاشرهم، وعلى الأخص الأطفال الصغار،
لحاجتهم للحنان والعطف، ولعدم إدراكهم هذا المعنى إلا من خلال سلوك ظاهر
وعمليّ. فيجب على الوالدين، والكبار عموماً، عند معاملة الأطفال ومعاشرتهم،
استخدام أساليب عملية ومعبّرة عن المودّة والمحبة لهم، مثل حمل الصغار،
وتقبيلهم، وملاعبتهم، ومداعبتهم، وإعطائهم بعض الحلوى أو الفاكهة، أو
الأشياء التي يفضلونها، ومصاحبتهم خارج المنزل للتّنزه والتّفرج، وزيارات
المعارف والأقارب، والاهتمام بأمورهم والردّ على كل أسئلتهم، والنوم
بجانبهم والسماح لهم بالجلوس مع ضيوف البيت، ومدح سلوكهم الصحيح، أو
المتميّز، وتقدير أعمالهم بالجوائز والحلوى، وعدم زجرهم ومنعهم من اللعب
والحركة، وأمثال ذلك من الأسباب التي توَّطد العلاقة مع الطفل، وتقنعه
بالحب والاهتمام، وتشبع حاجاته.
- وعن جابر بن سَمرُة - رضي الله عنه - قال: " صلّيْتُ مع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - صلاة الأولى ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه، فاستقْبله
وِلْدان، فجعل يمسخ خَدَّي أحدهم واحداً واحداً " رواه مسلم، فأي صورة من
الحنان المعبِّر، والأبوّة والشفقة، تلك التي يبديها رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وهو يَلْقى بعض الأطفال في طريقه، فيمسح بحنان ومودَّة على كل
خدٍ للأطفال واحداً واحداً، لأنه الحنان الغامر الذي يشمل كل طفل، وأين هذا
السلوك من سلوك الذي يزجر كل طفل يلقاه معترضاً طريقه ؟ أو على الأقل من
لا يحدثهم ولا يلقي إليهم السلام ؟ وقريب من ذلك ما رواه أنس بن مالك - رضي
الله عنه - قال: " أَتَى عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعب
مع الغلمان، فسلم علينا، وبعثني إلى حاجته " رواه مسلم. فانظر إلى هذا
السلوك الماهر في التربية للصغار، " فسلم علينا، وبعثني إلى حاجته "
فالسلام على الصغار وهم يلعبون، وقبل أن يطلب من أحدهم ترك اللعب ليقضي
حاجة، فيه احترام وتقدير للصغار، وإقرار للعبهم، ولولا الحاجة ما قطع عليهم
لهوهم ولعبهم.
- روى البخاري ومسلم " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بشراب،
فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام:
أتأذن لي أن أُعطي هؤلاء ؟ فقال الغلام: والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي
منك أحداً، فَتَلَّهُ رسول الله في يده " والغلام هو الفضل بن العباس رضي
الله عنهما. إنه أمر يفوق كل تقدير، وتعجز عنه أساليب التَعبير كلها، ولا
ترقى إليه مناهج التربية التي يحاولها غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من
البشر، طفل صغير يجلس في مجلس الأشياخ وبينهم النبي - صلى الله عليه وسلم -
الذي يعلم ويسوس ويقود الأمة! ويستأذنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في
شربة! ويجلس عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي كرامة للكبار قبل
الصغار! ولا ينسى النبي - صلى الله عليه وسلم - حقَّ الطفل الصغير في الشرب
بدءاً من يمين الشارب! إن هذا السلوك وغيره من أساليب التربية الإسلامية،
هي التي أوصلت هؤلاء الغلمان إلى مدارج العظمة وهم لا يزالون صغاراً، فهذا
الفضل بن العباس رضي الله عنهما، وهو غلام دَرَجَ بين الأشياخ يَعْرف كيف
المْنطق في مثل هذا الموقف العظيم، " والله يا رسولَ الله لا أُوثر بنصيبي
منك أحداً " عطاء وحق من يد رسول الله، يدعْه ذو مسكة من عقل، ولذلك وضع
الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإناء وفيه الشراب عند ذلك في يده.
المنهج الإسلامي الربّاني لا يمنع الأطفال والصغار من مخالطة الكبار،
ومجالستهم في كل مجالسهم، ومساجدهم، وتجمعاتهم، وأسفارهم، وأحفالهم،
وأنديتهم، وذلك حتى يأخذوا عن الكبار عملاً، وبالمواقف، فَيَتَشَّربون
السلوك ويحفظون القواعد والمبادئ، ويشاركون في الأعمال ويتدربّون على
المسئوليات. أما حرمان الأطفال والصغار من هذه المخالطة والمشاركة، فهو
حرمان من القُدْوة والتجربة من جانب، وعزل للصغار عن الاتصال بالكبار، من
جانب آخر، وهو منهج سلبي في التربية وغير عملي، ويدع الصغار بعضهم لبعض فلا
يتعلمون إلا السفاسف من الأمور، ويستَهْويهم الشياطين فيتعلمون الشرور،
بدلاً من مخالطة الكبار فينشغلون بالخير ويتعلمون معالي الأمور. فعن عبد
الله بن أبي حبيبة " .. وقيل له: ما تذكر من رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ؟ قال: جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجدنا بقباء،
فجئت وأنا غلام حدث حتى جلستُ عن يمينه، وجلس أبو بكر عن يساره، قال: ثم
دعا بشراب فشرب وناولني عن يمينه " رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات.
وعن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص قالت: " أتيت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - مع أبي، وعليَّ قميص أصفر، فقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: سَنَهْ، سَنَهْ، قال الراوي: وهي بالحبشية: حسنة، حسنة، قالت:
فذهبت ألعب بخاتم النُبوَّة، فزَبَرَنَي أبي، فقال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: دَعْها، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَبْلي
وأخْلقي، ثم أبْلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي " رواه البخاري، وكان خالد بن
سعيد قد هاجر إلى الحبشة هو وأهله، فهذه صبية صغيرة تحضر مجلس رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ، فالأمر لا يخض الصبيان فقط، ثم لا تهاب في المجلس
من اللعب، بل تذهب فتلعب بخاتم النبوّة المبارك الشريف، فيمنعها بزجرٍ
أبوها، فيقول لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: [دعها] بل يتوجه إليها -
صلى الله عليه وسلم - المداعبة والمباسطة ليذهب عن الصغيرة الحرج، ثم يدعو
لها ثلاثاً بطول العمر والعافية،فتلبس الجديد مرات ومرات بعد أن يخلق الثوب
الجديد. وخاتم النبوّة الشريف، عبارة عن بضعة من اللحم بارزة تميل إلى
الحمرة وعليها شعرات، في أعلى الظهر قريب من الرقبة المباركة. والسنّة
المباركة، والسيرة الشريفة، وتاريخ المسلمين، مليئة بالأمثلة على حضور
الصغار، بنين وبنات، كل المجالس والأماكن مخالطين للكبار، وليس هناك أعلى
من مجلس النبوّة الشريفة في المسجد، وفي كل المواطن، والتي خالط فيها
الصغار الكبار، حتى كبر الصغار على ما كان عليه الكبار، من خلق وسلوك ودين.
يتبع..
__________________