السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعد الألغاز وما شابهها كالأحاجي والأعاجيب من أقدم الأشكال الأدبية التقليدية التي عرفها الإنسان ، ويجزم بعض الدارسين أنها الطريق الأولى إلى المعرفة .
وتعد الألغاز رياضة ذهنية تستفز الفكر بما تتضمنه من مفاجآت ومسائل ظاهرها عجيب محير خارج عما أصل من قواعد ومخالف لها ، تجعل المتلقي يفكر في حلها فإذا توصل إلى المعنى الخفي زال الإشكال وبطل العجب ، وهي تعتمد على التورية ، إلا أن محورها حفظ الغريب والمشترك ، وتعد الألغاز وظيفة تربوية وتعليمية وترفيهية للمتلقين.
و يتفاجأ المتلقي النحوي باللغز إذ يعرض بطريقة توهم أن فيه خطأ نحويا كرفع المنصوب والمجرور، ونصب المرفوع والمجرور ، وجر المرفوع والمنصوب ، ونحو ذلك من تداخل حركات الإعراب أو حروفه أو التباس بعضها ببعض ، ثم لا يلبث المتلقي أن يعرف الأسرار الإعرابية التي جعلت الكلمة تأخذ وجها إعرابيا مخالفا لقناعاته أول وهلة .
فالألغاز النحوية تتضمن إشكالات مقصودة لأغراض وأسرار لطيفة ، والملغز في رسمه للغز يحيرك ،وتوقن أنه قد أخطأ في ضبط أواخر الكلمات ، والكلمات المتجاورة لا معنى يتضح لها ، فإذا مضيت معه في توجيهه فهمت المعنى وأيقنت بصحة اللفظ ورحت ترسم الشاهد رسما غير الرسم الذي قد قدم لك وإن كان رسم اللفظين واحدا ، وهنا موضع البراعة .
وهي تشحذ الذهن وتعوده استجلاء المواقع الإعرابية للكلمات والجمل والعبارات عن طريق النظر في معنى الكلمة وربطها بضمائمها ، كما أنه يسلي الخاطر ، ويظن القارئ العجل انه يتسلى ويلهو فيضحك أو يعرض ساخرا ، لكنه إذا تعمق في معنى اللغز أفاد علما وثقافة لاستناد الحل إلى قواعد كثيرة ما تكون نادرة حتى للمتخصصين ، وأدرك براعة صاحبه .
وتقوي المران والملكة ويحظى المتمكن في اللغة منها بمتاع غير قليل ، فبينما تراك لاهيا تتسلى بحل لغز إذا بك تغوص في دقائق من صميم اللغويات بنحوها وصرفها ، وتجد نفسك بين جد ولعب وتسلية وتعليم وترويح وتدقيق ، فهناك ألغاز في الإعراب دفن الغموض صوابها فكانت ظواهرها فاسدة قبيحة وبواطنها جيدة صحيحة .
إن أبيات الألغاز النحوية ابتدعت في عصر من العصور ، وأصبحت فنا ، وتجد كثيرا منها يعاجز به العلماء بعضهم بعضا ويتلقفها عنهم المتعلمون ، وكانت مطارحة هذه الأبيات في المجالس ظاهرة أدبية شاعت في المائة الثانية واستمرت إلى المائة الخامسة ، وتدل الظاهرة على توسع العلوم العربية وشواهدها والولوع بتنمية الملكات وشحذ المرانة فيها حتى كان من آثارها أن ذاعت هذه الرياضة .
ومن أشهر الذين ألفوا في الألغاز النحوية : الحريري إذ ألف كتابا أسماه ألغاز الحريري ، والفارقي في كتابه الإفصاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب ، والزمخشري الذي ألف كتابا سماه الأحاجي النحوية ، وابن هشام في كتابه الألغاز النحوية .
ونعرض فيما يأتي نماذجا من الألغاز النحوية كي يقف القارئ الكريم على سعة لغتنا العربية وعظم ثرائها .
ومهما يكن من شيء فإن هذه الألغاز تؤكد القواعد النحوية في ذهن المتلقي ، وتجعله يسترجعها من جديد ؛ لأنه يحاول استجلاء الموقعية الإعرابية للكلمة رابطا إياها بالسياق ، وما يشتمل عليه من قرائن حالية ومعنوية ولفظية .
* كساني أبي عثمان ثوبانُ للوغى ... وهل ينفع الثوب الرقيق لذي الحربِ
فأنت عندما تتلقى هذا البيت تندهش وتتساءل لمَ قال : " أبي عثمان " وهو فاعل كسا ؟ ، ولماذا رفع " ثوبان " ؟ .
وسرعان ما تزول الدهشة عندما تعرف أن ( الكاف ) للتشبيه ، و(ساني ) اسم فاعل وهو المستقي للماء ، و( ثوبان ) اسم رجل وهو مبتدأ والخبر( للوغى ) والتقدير ثوبان ُ كساني أبي عثمان في الضعف وقلة الغنى .
* قال الوشاةُ أبى وصالَكَ من به ... كنتَ الضنينَ وخانَكَ البرحاء
فعند تلقيك لهذا البيت يتبادر إلى ذهنك سؤال مهم وهو لماذا جرت " البرحاء " بالكسرة وهي تستحق الرفع كونها فاعلا للفعل " خان "؟ .
توجيهه أنه أراد خان كالبرحاء ، فالكاف للتشبيه ، والوجه أن تتصل بالبرحاء ، وإنما جاز وصلها بالفعل ( خان ) لأنه في موضع اللغز .
* إن أبي جعفـــرٌَُُ على فرســاً ... لو أنّ عبــدُ الإلــهِ ما ركبـــــا
فأنت حين سماعك لهذا البيت تتعجب من جر كلمة " أبي " إذ الأصل إن أبا ، وتتعجب من رفع كلمة " جعفر" مع أنها مجرورة بالإضافة ، ونصب كلمة " فرسا" مع أنه مجرورة بـ "على " ، ورفع كلمة " عبد " مع أنها اسم " أن " ولكن سرعان ما يزول العجب حين تعرف التوجيه الإعرابي وهو أنه يريد ( أبي ) في معنى والدي ، و( جعفرٌُ ) خبر إن و(على فرسا ) خبر ثان ، و(على ) هو الفعل علا وكتب بالألف المقصورة بغرض اللغز و ( فرسا مفعول به ) ، و ( أنَّ ) فعل ماض من الأنين ، و( عبد ) فاعل مرفوع أي لو اشتكى عبد الإله ما ركبا .
* أكلـــت دجاجتـــانِ وبطتـــانِ ... كما ركـــب المهلـــبُ بغلتـــــانِ
فأنت حين سماعك لهذا البيت يستوقفك رفع " دجاجتان وبطتان وبغلتان " .
وجوابه أن الكلمات ليست مثناه ، بل مؤلفة من :
( دجاج تان ، وبط تان ، وبغل تان ) ، والتان أي التاجر .
* لقد قال عبدُ اللهِ قولا ً عرفتُه ... أتانا أبي داودَ في مرتعٍ خِصْبِ.
فأنت حين قراءتك لهذا البيت يستشكل عليك قوله " عبد الله " بالفتح ، وظاهره يقتضي الرفع فاعلا لـ ( قال ) .
وقوله " أتانا أبي داود " بالجر ، وظاهره يقتضي الرفع فاعــــلا لـ " أتانا ".
أما قوله ( عبدَ ) أراد تثنيــة عبدان ، ثم حذف النـــون للإضلفة ، والألف منعا للالتقاء الساكنين ، فهو مرفوع في التقدير ، منصوب في اللفظ ، وقوله ( أتانا ) مثنى أتان وليس فعلا ، فعلى هذا يكون أبي داود مخفوض بإضافته إليه .