أبو فراس الحمداني (320- 357 ) هو الحارث بن سعيد بن حمدان، فارس أسرة بني حمدان وشاعرهم، ولد في الموصل ونشأ يتيما لأن ناصر الدولة صاحب الموصل، وهو أخ سيف الدولة كان قتل سعيدا والد أبي فراس، فكفله علي (سيف الدولة) الذي كان زوج أخته.
رأى سيف الدولة في أبي فراس دلائل النجابة والفروسية فجعله صاحب منبج، وأوكل إليه أمر الثغور في نواحيها لصد الروم أو هجمات الأعراب، فأبدى شجاعة فائقة وإقداما عظيما.
وفي سنة 348 أسرت الروم أبا فراس، ففداه سيف الدولة سنة 355. ويقال إنه أسر مرتين إحداهما سنة 348 والثانية سنة 351، وفي الثانية ذهبوا به إلى القسطنطينية فأقام ينتظر فداء سيف الدولة له بمال وفير أو مبادلة بأسير عظيم فطال ذلك حتى سنة 355. وبعد فداء أبي فراس ولاه سيف الدولة "حمص"، ولم يلبث أن توفي الأمير سنة 356 وتولى ابنه أبو المعالي تحت وصاية الوزير قرغويه، ولكن أمر السلطة دعا القريبين إلى الاقتتال قرب حمس، وانتهى الأمر بمصرع أبي فراس، وقبره معروف في قرية "صدد" قرب حمص.
كانت نشأة أبي فراس وطفولته في ظل والدته التي حدبت على رعايته، وتحت عطف زوج أخته سيف الدولة وتتلمذ على اللغوي الشهير ابن خالويه وغيره، كما شاهد أرباب القلم يفدون على بلاط سيف الدولة، واحتك بهم، ونبغ في الشعر، فتغزل ووصف المعارك، وله في الأسر قصائد كثيرة مشهورة عرفت بـ"الروميات" تعتبر من أرق شعره وأجمله.
سخر أبو فراس شعره ليتحدث عن مشاعره وأحاسيسه، فقد كان وجدانيا يصف ما يقع تحت بصره من حوادث ووقائع، وما يعتلج في صدره من آلام وآمال، ولأبي فراس مكانة عند مؤلفي الأدب، فقد قيل فيه: "بُدئ الشعر بملك وختم بملك، يعني امرؤ القيس وأبا فراس".
( وقوفك في الديار )
وُقُوفُكَ فِي الدّيَـارِ عَلَيـكَ عَـارُ
وَقَـدْ رُدّ الشّـبَابُ الـمُسْتَعَـارُ
أبَعْـدَ الأربَعِيـنَ مُـجَـرَّمَـاتٌ
تَمَـادٍ فِي الصّبَابَـةِ ، واغتِـرَارُ ؟
نَزَعْـتُ عَـنِ الصِّـبَا ، إلاّ بَقَايَـا
يُحَفّدُها ، عَلى الشّيـبِ ، العُقـارُ
وَقَالَ الغَانِيَـاتُ : سَـلا ، غُلامـاً
فكَيفَ بِـهِ وَقَدْ شَـابَ العِـذَارُ ؟
وَمَا أنْسَى الزّيَـارَةَ مِنْـكِ وَهْنـاً
وَمَوْعِـدُنَـا مَعَـانٌ وَالـحِيَـارُ
وَطَالَ اللّيلُ بـي ، وَلَـرُبّ دَهْـرٍ
نِعِمْـتُ بِـهِ ، لَيَـالِيـهِ قِصَـارُ
عَشِقْـتُ بِهَـا عَـوَارِيّ اللّيَالـي
أحَـقّ الخَيـلِ بالرّكـضِ المِعـارُ
وَندْمَانـي : السّريعُ إلـى لِقَائـي
عَلى عَجَـلٍ ، وَأقْدَاحـي الكِبَـارُ
وَكَـمْ مِنْ لَيْلَـةٍ لَـمْ أُرْوَ مِنْـهَا
حَنَنْـتُ لَهَـا ، وَأرّقَنـي ادّكَـارُ
قَضَانـي الدَّينَ مَاطِلُـهُ ، وَوَافَـى
إلـيّ بِهَـا ، الفُـؤادُ المُسْتَطَـارُ
فَبِتّ أعُـلّ خَمْـراً مِنْ رُضَـابٍ
لَهَا سُكْـرٌ وَلَيْـسَ لَهَا خُـمَـارُ
إلـى أنْ رَقّ ثَـوْبُ اللّيـلِ عَنّـا
وَقَالَتْ : قُـمْ ! فقد برد السُّـوَارُ
وَوَلّتْ تَسْرُقُ اللّحَظَـاتِ نَحْـوِي
عَلى فَـرَقٍ كَمَا التَفَـتَ الصُّـوَارُ
دَنَا ذَاكَ الصّبَـاحُ ، فلَسـتُ أدرِي
أشَـوْقٌ كَانَ مِنْـهُ ؟ أمْ ضِـرَارُ ؟
وَقَد عَادَيتُ ضَوْءَ الصّبـحِ حتَّـى
لِطَرْفـي، عَـنْ مَطَالِعِـهِ ، ازْوِرَارُ
وَمُضْطَـغِـنٍ يُـرَاوِدُ فِـيَّ عَيْبـاً
سَيَلْقَـاهُ ، إذا سُكِـنَـتْ وَبَـارُ
وَأحْسِـبُ أنّـهُ سَيَجُـرّ حَرْبـاً
عَلـى قَـوْمٍ ذُنُـوبُهُـمُ صِغَـارُ
كمَـا خَزِيَـتْ بِرَاعِيـها نُمَيْـرٌ
وَجَـرّ عَلى بَنـي أسَـدٍ يَسَـارُ
وَكَمْ يَوْمٍ وَصَلْـتُ بفَجْـرِ لَيْـلٍ
كَأنّ الرّكْـبَ تَحْتَهُـمَا صِـدارُ
إذا انْحَسَـرَ الظّـلامُ امْـتَـدّ آلٌ
كَـأنّـا دُرّهُ ، وَهُـوَ البِـحَـارُ
يَمُوجُ عَلى النّوَاظِـرِ ، فَهْـوَ مَـاءٌ
وَيَلْفَـحُ بِالهَوَاجِـرِ ، فَهْـوَ نَـارُ
إذَا مَـا العِـزّ أصْبَـحَ فِي مَكَـانٍ
سَمَـوْتُ لَـهُ ، وَإنْ بَعُـدَ المَـزَارُ
مُقامي ، حَيثُ لا أهْـوَى ، قَلِيـلٌ
وَنَوْمي ، عِنْـدَ مَن أقْلـي ، غِـرَارُ
أبَتْ لي هِمّتـي ، وَغِـرَارُ سَيْفـي
وَعَـزْمـي ، وَالمَطِيّـةُ ، وَالقِفَـارُ
وَنَفْـسٌ، لا تُجَـاوِرُهَـا الدّنَايَـا
وَعِـرْضٌ، لا يَـرِفّ عَلَيْـهِ عَـارُ
وَقَوْمٌ ، مِثلُ مَن صَحِبـوا ، كِـرَامٌ
وَخَيلٌ ، مِثلُ من حَملـتْ ، خيـارُ
وَكَمْ بَلَـدٍ شَتَـتْـنَـاهُـنّ فِيـهِ
ضُحـىً ، وَعَـلا مَنَابِـرَهُ الغُبَـارُ
وَخَيـلٍ ، خَفّ جَانِبُـهَا ، فَلَـمّا
ذُكِـرْنَـا بَيْنَـهَا نُسِـيَ الفِـرَارُ
وَكَمْ مَلِكٍ، نَزَعنـا الـمُلكَ عَنْـهُ
وَجَـبّـارٍ، بِهَـا دَمُـهُ جُـبَـارُ
وَكُـنّ إذَا أغَـرْنَـا عَلَـى دِيَـارٍ
رَجَعـنَ ، وَمِنْ طَرَائِدهَـا الدّيَـارُ
فَقَـدْ أصْبَحْـنَ وَالدّنْيَـا جَمِيـعاً
لَنَـا دَارٌ ، وَمَـنْ تَحْوِيـهِ جَـارُ
إذَا أمْـسَـتْ نِـزَارُ لَنَـا عَبِيـداً
فَـإنّ الـنّـاسَ كُلّهُـمُ نِــزَارُ